استحضار الرموز فوق الطبيعية إلى الأرض في المشرق العربي القديم

نوع المستند : الدراسات التاریخیة والأثریة والتراثیة

المؤلف

کاتب وباحث في تاريخ العالم العربي - سوريا.

المستخلص

مُنح الإنسان العاقل الإمکانات الطبيعية والبيئية، وبنية دماغية تتطور وفق آلية التحريض والاستجابة حتى استطاع أن يمضي في مسير الحضارة، کاشفًا، مبدعًا، متجاوزًا نفسه في کثير من المجالات، حتى أدرک العلو، وفهم أن هناک سيدًا للأعالي، يحمل قيم الخير والحق والجمال. ومن أجل وعي هذا المطلق، کان عليه أن يلامس مظاهر الطبيعة، خائف تارة، حذر تارة أخرى، منفعل بها حتى رمّزها واستجار بها. تلک الرموز الطبيعية قدّس ظواهرها في سعيه نحو سيد السماء وخالق کل شيء. کان الإنسان إذن کائن من خير، لم يبتکر وثنيته، بل سعى نحو الإله حاملاً مظاهر خلقه، القمر، الشمس... إلخ. والوثن حسب البيئة الطبيعية، فهو انعکاس لذهنية اجتماعية تفاعلت مع البيئة الطبيعية، فکلما شحّت البيئة الطبيعية کانت الوثنية حسية، بدائية، غريزية، والعکس صحيح. لا تبتعد الذهنية المشرقية في تصوراتها عن نشوء الکون عما أوحت إليه المعتقدات بعامة، ومن الماء نشأ الکون، فالسماء مفصولة عن الأرض بالفضاء/ الهواء، الذي بدوره تولدت منه الأجرام النيرة، ثم انبثقت إلى الوجود الحياة النباتية والحيوانية والبشرية. وثمة سيد الکون وخالقه، غير المدرک، والذي استعان بملائکته في العلاقة الواصلة بينه وبين البشر، تلک الملائکة التي تم التعبير عنها في الذهنية المشرقية بالرموز الطبيعية وغيرها: شمش (الشمس)، سن (القمر)، انليل (الهواء أو الفاصل بين السماء والأرض)، و هکذا. وسيد الکون (الإله العالي) هو آنو في الألف الثالثة قبل الميلاد، وايل في الألف الثانية قبل الميلاد، وصولاً إلى الله في الأديان السماوية. کلمة آنو هي التي تحدد مصير وقدر الإنسان ولا ينقضها أي إله آخر لأن الآلهة الأخرى أدنى مرتبة. وهذا يؤکد سمو آنو وتفرده ووحدانيته. فهو المجرد، البعيد، العالي، السامي، مقابل آلهة تُعنى بتنفيذ الکلمة الإلهية لآنو والتي لا تتبدل ولا تنقض. وقد تبدى السيد العالي في الوثائق: "هو الذي لم تلده امرأة، وإنما خلق نفسه بنفسه، هو الثمرة التي خلقت نفسها بنفسها، خالق کل شيء، واهب الحياة، راعي البلاد – أبو السنين (الخالد) – خالق الخلائق – الحکيم – الطيب – سيد الرحمة – الرحيم (ذو الفؤاد) – السيد الذي لا تبدل مشيئته – أنواره لا يحدها بصر – أسرار جوهره التي تبقى خافية على البشر – لا أحد يعرف برسائله – لا أحد يلم بقراراته – لا أحد يستطيع فهم دروبه". بهذا قاربنا مجموعة الرموز الاعتقادية التي عُبدت في المشرق العربي، والتي کان في استمراريتها حتى الألف الأول الميلادي دوره المهم، ولاسيما فکرة الإله العالي، المحجوب، الذي يسکن السماء، لا يَرى ولا يُرى، وبيده مقادير الأرض والسماء، هذه الفکرة التي سوف تتطور وتتبلور مع مرّ العصور حتى فجر الأديان السماوية المسيحية والإسلامية والتي ستکون رافعتها الحضارية هي ثقافة الألف الأول قبل الميلاد، الکلدانية - الآرامية بالذات التي امتدت فاعليتها الحضارية حتى الجزيرة العربية انطلاقًا من تيماء، العاصمة الثانية للملک الکلداني نبونيد بعد بابل.

الكلمات الرئيسية

الموضوعات الرئيسية